مراجعات فيلمية

مراجعة | «معركة تلو الأخرى» يرمز لسياسة أميركا المعاصرة

مزيج فريد من الإثارة والكوميديا والدراما لـ بول توماس أندرسون

لوس أنجلوس ـ خاص «سينماتوغراف»

منذ فيلمه الأول “Hard Eight” عام 1996، رسخ المخرج بول توماس أندرسون مكانته كواحد من أعظم مخرجي الأفلام الأمريكية على مر العقود الثلاثة الماضية.

أنتج أفلامًا خالدة، لكنه لم يسبق له أن أنتج فيلمًا مثيرًا للجدل مثل معركة تلو الأخرى  “One Battle After Another”.

يتميز هذا الفيلم بحجمه الكبير، وإيقاعه السريع، وإثارة مشاعره، وتناوله للأمور السياسية، بالإضافة إلى عمق إنسانيته ومواضيعه الكوميدية، ما يجعله عمله الأهم حتى الآن، نظراً لمحتواه السياسي والاجتماعي المعاصر،  وفي ظل الظروف الراهنة في العالم، قد يصبح هذا الفيلم رمزًا لعصرنا.

يمتد الفيلم على مدار 162 دقيقة، ويتميز بحيوية وإثارة لا مثيل لها، بفضل مونتاج أندي يورغنسن المتقن وموسيقى جوني غرينوود الرائعة التي تتراوح بين أنغام البيانو المرحة ذات الطابع الجازي إلى موسيقى الأوبرا الرائعة.

استوحى أندرسون الفيلم من رواية “فينيلاند” لتومس بينشون، لكنه أضاف إليه لمسته الشخصية التي تعكس قلقه من الوضع الحالي في أمريكا، ليقدم في النهاية مزيجًا فريدًا من الإثارة والكوميديا ​​والدراما العائلية، في عمل سينمائي متكامل يُعتبر بلا منازع أفضل أفلام هذا العام.

يبدأ الفيلم قبل ستة عشر عامًا بإعلان حماسي من مجموعة “فرانس 75″، وهي مجموعة ثورية متشددة.

تحت غطاء الظلام، يشن الرجال والنساء الشجعان هجومًا على مركز احتجاز أوتاي ميسا على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، حيث كانوا يحتجزون المهاجرين غير الشرعيين، تحت إشراف المارشال الأمريكي والعميد ستيفن ج. لوكجاو (شون بين).

من بين أعضاء “فرانس 75” الحبيبان بيرفيديا بيفرلي هيلز (تيانا تايلور، التي تُقدم أداءً مميزًا في أول 30 دقيقة من الفيلم) وبات (ليوناردو دي كابريو).

يتم وضع المتفجرات، ويتم إطلاق سراح المحتجزين، ويتم اعتقال المسؤولين.

هذه البداية تُحدد جوهر الفيلم، حيث يُظهر العنف السياسي ليس كعمل تحدٍ، بل كضرورة قصوى ذات عواقب وخيمة.

يعيش بيرفيديا وبات حياةً مليئة بالمخاطر، يخوضان معركة تلو الأخرى بينما تستهدف المجموعة البنوك والمؤسسات الحكومية والرأسمالية.

لكن عندما تحمل بيرفيديا بابنتها شارلين، يرغب بات في التوقف عن الثورة والاستقرار كعائلة.

لكن بيرفيدا، التي تضع مصالحها أولاً، تتجاهل نصيحته وتتعرض لمراقبة لوكجاو، ما يؤدي في النهاية إلى هروبها من البلاد،  وتترتب على ذلك خيانة حلفائها وعائلتها، تاركة بات وابنتها الرضيعة.

مع تضييق الخناق عليها، يُغير بات اسمه إلى بوب فيرغسون، ويغير اسم ابنته من شارلين إلى ويلا.

ينتقلون إلى مكان آخر في البلاد يُدعى باكتان كروس (ليس موقعًا حقيقيًا) ويعيشون في خفاء لسنوات، دون استخدام الهواتف المحمولة، ويخضعون لتدريبات أمنية صارمة، ويصاب بوب بالجنون والشكوك، ويعيش في ذنب وندم. بعد ستة عشر عامًا، تتحقق شكوك بوب، ويجد لوكجاو هو وويلا، ويلاحقهم لإكمال ما بدأه.

تُختطف ويلا، ويجب على بات أن يجمع شجاعته ويعود إلى “فرانس 75” ليقاتل من أجل إنقاذ ابنته.

ما سيحدث لاحقًا هو مواجهة حتمية، كما يوحي عنوان الفيلم، وهي مواجهة ذات دلالة رمزية وشخصية على حد سواء بالنسبة للمخرج والشخصيات والجمهور.

يُعدّ موضوع الأسرة من المواضيع الأساسية في أعمال أندرسون، سواء في أفلامه مثل “بوغي نايتس” أو “ماغنوليا” أو “هناك دماء ستسيل”.

ورغم كل السيناريوهات المثيرة والمحفوفة بالمخاطر التي يقدمها فيلم “معركة تلو الأخرى”، لم يغفل أندرسون عن جوهر القصة كقصة أب وابنة، وهو أمر بالغ الأهمية لجذب انتباه المشاهدين وإشراكهم عاطفياً في أحداث الفيلم وشخصياته، حيث يأخذنا في رحلة مثيرة عبر طرق الصحراء الوعرة وصولاً إلى الجماعات السرية في أعماق المجتمع الأمريكي.

إن بحث بوب المضني عن ويلا يجبره على استعادة ذكريات ثورته السابقة، والاتصال بأصدقائه الذين لا يثقون به إلا بعد أن يُقدم لهم كلمات المرور السرية عبر الهاتف للتأكد من هويته.

ومن العناصر المتميزة في هذا الفيلم، أنه يتناول أحداثاً في العصر الحديث (معظم أفلام أندرسون تدور في حقب تاريخية)، مما يضفي على الفيلم إثارة متزايدة بسبب محاولة البطل الهروب من سطوة الحكومة الأمريكية القوية.

فالنظام قادر على تتبع هواتف الناس، واعتقال أصدقائهم، وإرهاب أحبائهم، واستخدام أي وسيلة تقنية أو عنفية لتحقيق أهدافه، مما يجعل الفيلم مليئاً بالإثارة والتشويق، ويضفي على أحداثه أهمية كبيرة.

في مشهد ساخر، يظهر دي كابريو وهو يحاول تطبيق إجراءات الأمن التي لا يتذكرها، بينما يرتدي رداءً وحشياً ونظارات شمسية كبيرة الحجم وقبعة شتوية. ويتمكن دي كابريو من إضفاء مزيج من المرح والعمق الدرامي على هذا المشهد. ويُدرك المخرج أندرسون أن أفضل ما في دي كابريو هو قدرته على التوازن بين الفكاهة الساخرة والعمق الدرامي، وقد قدم دي كابريو في هذا الفيلم أداءً استثنائياً، متجاوزاً بعض من أفضل أعماله السابقة في أفلام مثل “ذئب وول ستريت” و”كان يا ما كان في هوليوود”.

قد لا يكون هذا الأداء جديداً تماماً، لكنه يعكس تماماً نقاط قوته، حيث يقود الفيلم بسحره المعهود وإقناعه الذي عرفناه على الشاشة على مدى عقود.

تميزت تشيس إنفينيتي، في أول أدوارها السينمائية بدور ويلا، بأداء مميز استحق الإشادة.

فقد جسدت شخصيةً تجمع بين القوة والضعف والثقة بالنفس، مما جعلها تبدو في كامل أناقتها أمام ليوناردو دي كابريو، وخاصةً أمام الممثل المخيف شون بين، وذلك بأسلوب طبيعي وسلس.

برزت موهبتها الفنية في كل مشهد، ما يشير إلى مستقبل مشرق في انتظارها.

أما شون بين، فقد قدم أحد أفضل أدواره في السنوات الأخيرة. لقد جسد شخصية العقيد لوكجاو بدقة متناهية، من خلال وقفته الجامدة، وحركاته الآلية، وابتسامته المزيفة التي تخفي غضبًا داخليًا، ورغبته الشديدة في الانتماء إلى نادي مغامري عيد الميلاد (برئاسة توني غولدوين)، وهو مجموعة عنصرية تهدف إلى “إحلال السلام والنقاء في العالم”.

وعلى الرغم من أن شخصيات هذا النادي تُقدم بطريقة ساخرة، إلا أن من المخيف إدراك مدى انتشار هذه الجماعات العنصرية في مجتمعنا اليوم، ورغبة بعض ذوي النفوذ، مثل العقيد لوكجاو، في الانتماء إليها.

لو كان بالإمكان تصوير شخصية العقيد لوكجاو كشخصية كاريكاتيرية، إلا أن بين منحها عمقًا نفسيًّا، وجعلها شخصية معقدة، مما يسمح للمشاهدين بفهم دوافعها، حتى وإن بقي هو شخصًا شريرًا، يغذي مشاعر الكراهية وعدم الأمان لديه، ويخفيها خلف واجهة من الشجاعة والرجولة الزائفة.

يُعدّ دور سيرجيو سانت كارلوس، الذي جسده بينيسييو ديل تورو (مدرب الكاراتيه لويلا)، من أكثر الأدوار إثارةً للاهتمام في الفيلم، حيث يُضفي على شخصيته جاذبيةً فريدة، ويساهم في إضفاء عمقٍ وجوٍّ شيق على أحداث الفيلم.

ويُصوّر الفيلم سيرجيو كواحد من قادة ما يُسمى “المدينة المأوى”، وهي مدينةٌ تُقيّد فيها السلطات المحلية تعاونها مع هيئات الهجرة الفيدرالية بهدف حماية المهاجرين من خطر الترحيل.

ويؤدي هذا إلى تكوين مجتمعٍ متماسك من المهاجرين، يمتلكون مشاريع تجارية محلية، ويعيشون في منطقةٍ واحدة، ويحافظون على التواصل فيما بينهم، مع وضع خططٍ محددة للهرب في حال قيام الحكومة باتخاذ إجراءاتٍ ضدهم (يمكن اعتبارها شبيهة بحركة “السكة الحديدية السرية” في الماضي).

ويُظهر هذا الفيلم، من خلال مقارنةٍ بين هذا المجتمع المتماسك ونادي مغامري عيد الميلاد المكون من البيض فقط، كيف يعمل كلٌّ من هذين المجتمعين داخل بيئتهما، وكيف يُؤثر كلٌّ منهما على مجتمعه في الوقت الحاضر.

يحمل سيرجيو في الفيلم عبارة حاسمة تعبر عن جوهر رسالته، مستوحياً من كلمات نينـا سيمون، حيث يسأل بوب: “هل تعرف معنى الحرية؟ هو غياب الخوف”.

وبينما يقدم سيرجيو المساعدة لبوب بإخلاص في معركته، يمثل رمزاً للعديد من الأشخاص الذين يناضلون من أجل الحق دون خوف في مواجهة خصمٍ قوي يهدف إلى إبقاء المختلفين عنهم في حالة من التهميش والضعف.

ويُظهر كل شخصية في الفيلم شجاعتها بطريقة فريدة، ويحسب المخرج أندرسون حساباً جيداً عندما لا يُصوّر بوب أو بيرفيديا أو سيرجيو أو ويلا أو دياندرا (التي تلعب دورها ريجينا هال، والتي تعود للمساعدة في إنقاذ ويلا من قبضة لوك جاو) كأبطال خارقين أو نجوم أفلام الحركة. إنهم ببساطة بشر عاديون، لديهم عيوبهم، لكنهم يواجهون نظاماً قمعياً ضخماً، ولقد أصبح مجرد حقيقة استعدادهم للتصدي لهذا النظام ومحاولة تغيير الوضع، أمراً يستحق الإشادة والإلهام.

إن استكشاف فيلم “معركة تلو الأخرى” لموضوع العنف السياسي سيثير حوارًا واسعًا، نظرًا لانتشار هذه المشاعر وتأثيرها الكبير في هذه الفترة، خاصة مع غياب أي حلول بديلة لمقاومة الظلم، واستمرار البلاد في الانزلاق نحو الفاشية أمام أعيننا.

يوفر الفيلم للجمهور فرصة فريدة لرؤية هذه الشخصيات كأبطال حقيقيين قادرين على فعل ما لا نستطيع.

وإذا ما ألهمت أفعالهم المشاهدين لاتخاذ إجراءات سلمية للدفاع عن عالم أكثر عدلاً، فسيكون الفيلم قد حقق هدفه.

لكن أندرسون لا يتجاهل عواقب هذه الإجراءات، مما يضفي على الفيلم طابعًا دراميًا، كما هو واضح في عنوانه.

بيرفيديا مستعدة للتضحية بكل شيء من أجل القضية، لكن هل يفعل الشيء نفسه بوب؟ وماذا عن من يتبعونهم أو من ورثوا هذه المعركة من الأجيال السابقة؟ كما تقول ويلا لوالِدها: لم تكن هذه رغبتها، بل هي مجرد مصادفة.

لكن عندما تكون نتائج هذه المواجهة القاسية هي النفي أو السجن أو الموت، أو مجرد أمل ضئيل في تحقيق التغيير، فهل تستحق هذه المعركة كل هذا التضحية؟ يترك فيلم أندرسون مساحة واسعة للتأمل في هذه الأسئلة، ويمنحنا القدرة على اختيار المستقبل الذي نرغب فيه.

يُعدّ فيلم “معركة تلو الأخرى” تجربة سينمائية غنية ومتكاملة لمحبي السينما، حيث يمزج ببراعة بين الكوميديا ​​والدراما والإثارة، مع لمسات من التناول السياسي. ويُحقق هذا التوازن الرائع بفضل براعة أندرسون في الكتابة والإخراج، بالإضافة إلى إيقاع الفيلم المتقن الذي حرص عليه المونتاج أندي يورغنسن، مما يجعل الفيلم الذي يمتد لأكثر من ثلاث ساعات يبدو قصيراً، مع تناوب مثالي بين المشاهد الحماسية والهدوء، مما يسمح للمشاهدين بالاستمتاع بالفيلم وفهم رسائله في آن واحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى