مراجعات فيلمية

مراجعة | «في أرض آرتو» فيلم افتتاح لوكارنو

مواجهة مع الأسرار والأكاذيب وآثار الحرب

لوكارنو ـ خاص «سينماتوغراف»

امرأة فرنسية تكشف الأسرار المظلمة لزوجها الراحل وموطنه أرمينيا أثناء سفرها إلى هذه الدولة الواقعة في غرب آسيا – دراما مؤثرة افتتحت الدورة الثامنة والسبعين من مهرجان لوكارنو السينمائي.

يُمثل هذا العمل الجديد للمخرجة تمارا ستيبانيان نقلة نوعية في مسيرتها بعد انتقالها من الأفلام الوثائقية الحميمة إلى فيلم روائي طويل متكامل.

وصف هذا العمل بالخيال ليس دقيقًا تمامًا، فكل مشهد من الفيلم غارق في تجارب معاشة، وفي جروح حقيقية، وفي نسيج الحزن والذاكرة.

وبالنسبة لستيبانيان، لا يصبح الخيال ابتعادًا عن الحقيقة، بل طريقة أعمق لمقاربتها.

تدور أحداث القصة حول سيلين (التي تجسدها كاميل كوتين بضبط نفس ملحوظ وقوة هادئة)، وهي امرأة فرنسية تسافر إلى أرمينيا لتسجيل وفاة زوجها أرتو.

ما كان من المفترض أن يكون عملاً بيروقراطيًا سرعان ما يتحول إلى شيء أعمق بكثير: مواجهة مع الأسرار والأكاذيب وآثار الحرب العاطفية.

يتضح أن آرتو لم يكن الرجل الذي ظنت أنها تعرفه. بينما تتعمق سيلين في وطنها – من بحيرة سيفان إلى أطلال كاراباخ – لا تكشف عن شظايا من هوية آرتو فحسب، بل تكشف أيضًا عن أجزاء من هويتها الخاصة.

ليس من قبيل المصادفة أن ستيبانيان نفسها غادرت أرمينيا في الثانية عشرة من عمرها وقضت الثلاثين عامًا التالية تصارع إحساس الوطن المفقود.

أرمينيا هنا ليست مجرد خلفية، بل هي شخصية حية مجروحة. جبالها، أطلالها، صمتها، كلها تتحدث.

رحلة سيلين تعكس رحلة ستيبانيان: ألم العودة، وغربة الغربة في أرض كانت يومًا وطنًا، والعملية البطيئة والمؤلمة لمحاولة فهم بلد من خلال غياباته.

إنه فيلم عما لا يُقال – عن القصص التي لا نرثها، عن الحقائق المدفونة في الحرب والصمت.

المخرجة والمصورة في موقع تنفيذ الفيلم
المخرجة والمصورة في موقع تنفيذ الفيلم

صُوّر الفيلم بضوء طبيعي مع المصورة السينمائية المدربة على الأفلام الوثائقية كلير ماثون، وهو يحمل النظرة التأملية والرصدية التي شكلت أعمال ستيبانيان السابقة.

تتوالى الأحداث بوتيرة هادئة – غالبًا في صمت – مما يسمح للمناظر الطبيعية والعواطف بالتنفس. تجد أماكن وأشخاص حقيقيون من غيومري، المدينة التي دمرها زلزال عام 1988، طريقهم إلى السرد.

هناك محاربون قدامى، ومبتورو الأطراف، وأطفال مسكونون، وامرأتان – سيلين وأرسين (التي تلعب دورها زار أمير إبراهيمي) – تصبحان رفيقتين غريبتين في مهمة مشتركة للدفن والبعث.

ومع ذلك، فإن فيلم “في أرض آرتو” ليس مجرد فيلم عن الحرب أو الحزن – إنه يدور حول استحالة معرفة إنسان آخر معرفة كاملة.

ظنت سيلين أنها تعرف آرتو. لكنها لم تكن كذلك. من خلال الآخرين – حبيب سابق، أصدقاء قدامى، وطن أم تركته وراءها – تبدأ في تجميع صورة جديدة للرجل الذي أحبته.

رجل، في النهاية، دمره الشعور بالذنب وصدمة حرب لم تنته حقًا.

تتعامل ستيبانيان مع هذا الأمر برشاقة، لا بميلودراما، واثقةً بأن المشاهد سيستشعر الأعباء الخفية التي تحملها شخصياتها.

دينيس لافانت، الذي اختير لدور جندي مخضرم شبحي، يُضيف طاقة سريالية محمومة إلى الفيلم. هو ليس مرتبطًا بحرب أو لغة واحدة، بل يُمثل جنونًا عالميًا – من النوع الذي ينشأ عندما تمحو الحرب المعنى.

يُبرز وجوده تأمل الفيلم الأوسع: ما الذي ينطوي عليه الانتماء؟، هل يعني وراثة الحزن؟، أو ربما توريثه لأطفالك؟

من أقوى العبارات عندما تقول سيلين لصديق آرتو: “سأمنح ابني شهادة الميلاد والجنسية. وهو من يقرر ما سيفعل بهما”.

إنها جملة بسيطة، لكنها تحمل في طياتها كامل عبء الهوية الموروثة – سؤال يواجهه كل مهاجر في النهاية. ماذا نفعل بالقصص التي لم نخترها؟ لا توجد إجابات سهلة.

هذا ليس فيلمًا يُنهي قصة، بل هو فيلم انفتاح، ومرثيةٌ مُقنّعةٌ في صورة فيلم طريق، وقصة حربٍ مُقنّعةٍ في صورة رومانسية، وتأملٌ في الوطن مُقنّعٌ في صورة خيال.

في نهاية المطاف، هو أيضًا فيلمٌ عن النساء. أولئك اللواتي يحملن ذاكرة الأمم. أولئك اللواتي يخوضن الحروب، ويدفنن الرجال، ويُربّين الأطفال، ويواصلن البحث عن الحقيقة. في عالم ستيبانيان، أن تكون امرأةً يعني أن تصمد وتتذكر.

إنه فيلمٌ مؤثرٌ للغاية، وشخصيٌّ للغاية. فيلمٌ يبقى كألمٍ شبحي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى