مراجعة فيلم | «بذرة التين المقدس» عمل جريء لـ محمد رسولوف
رشحته ألمانيا للمنافسة على الأوسكار

«سينماتوغراف» ـ أسامة عسل
في مشهد سينمائي تهيمن عليه غالبًا أفلام الهروب من الواقع، يبرز فيلم «بذرة التين المقدس» كتذكير مؤثر بقدرة السينما على التحدي والتنوير والإلهام، إنه عمل لا يُفوّت لمن يبحث عن سينما لا تروي قصة فحسب، بل تجرؤ أيضًا على نقل تفاصيل حياتية بدقة للتعبير عن الوضع الراهن.
«بذرة التين المقدس، The Seed of the Sacred Fig» أكثر من مجرد فيلم؛ إنه عمل جريء من التحدي الفني، أنتجه وأخرجه محمد رسولوف، الذي واجه السجن وفرّ في النهاية من إيران بسبب انتقاده للنظام، أبدع عملاً سياسيًا بقدر ما هو إنساني للغاية، حصد جائزة لجنة تحكيم مهرجان كان 2024، ورشحته ألمانيا للمنافسة على أوسكار 2025 ضمن فئة أفضل فيلم دولي ناطق بلغة غير الإنجليزية.
صُوّر الفيلم بسرية تامة على مدار 70 يومًا، من ديسمبر 2023 إلى مارس 2024. هُرِّبت اللقطات من إيران وقام أندرو بيرد بمونتاجها في هامبورغ، مازجًا المشاهد الخيالية بلقطات خام من الاحتجاجات السياسية التي أشعلها وفاة الإيرانية مهسا أميني في سبتمبر 2022.

يدور الفيلم حول عائلة تمر باضطراب نتيجة الأب، إيمان (يؤدي دوره ميساغ زاري)، الذي رُقِّي مؤخرًا إلى منصب «محقق» لدى الحكومة الإيرانية.
تحاول زوجته نجمة (سهيلة غلستاني) دعم زوجها في عمله لصالح النظام، وفي الحفاظ على القيم التقليدية التي يمثلها، ومع ذلك، فإن ابنتيهما رضوان (مهسا رستمي) وسناء (ستارة ملكي) أكثر ثورية. مستلهمين ذلك من انتفاضة «المرأة والحياة والحرية»، حيث تتساءلان عن القيم الأبوية لوالدهما، وبينما تتكيف الأسرة مع نمط الحياة الذي فرضه دور إيمان الجديد، تتصاعد التوترات ويظهر صراع يهدد بتفريقهم.
يقدم فيلم «بذرة التين المقدس» أداءً متعدد المستويات. وعلى الرغم من أن مدة عرضه تقارب ثلاث ساعات، إلا أنه يجذب انتباهنا، متنقلاً بين لغز معقد، ودراما منزلية آسرة، وإثارة جنونية مثيرة للقلق والتوتر.
الشخصيات الرئيسية الأربع غنية ومتعددة الطبقات، ومع أداء قوي ومتوازن من جميع الممثلين، يُظهر رسولوف والمصور بويان أغابابائي تقنيةً متقنة، إذ يُضفيان لمسات بصرية مميزة على دراما واقعية واضحة.

على المستوى المجازي، يُقدم الفيلم نقدًا قويًا للنظام الإيراني. وبينما يُوازن بين إيمان ونساء عائلته، نُدرك الضغوط التي يواجهها كل فرد من أفراد العائلة، ونُدرك كذلك كيف يحاول كلا الوالدين الموازنة بين تقديم تنازلات أخلاقية والحفاظ على سلامة أسرتهما.
ومع بدء انزلاق الأمور، ندرك أيضاً بوضوح مدى استعداد إيمان (الذي يمثل النظام الإيراني) للمضي قدمًا عندما يتحدى الناس سلطته.
وأخيرًا، وبصفته وثيقةً لانتفاضة وتأييدًا للعمل النسوي، فإن فيلم «بذرة التين المقدس» لا يُمكن إنكاره.
تُعارض الإبنه (رضوان) صراحةً آراء والديها المُعادية للنساء، والطرق التي لا يقتصر بها النظام على اضطهادهن، بل ينشر من خلالها الأكاذيب عبر وسائل الإعلام، بينما تروي مقاطع الفيديو التي تشاهدها على مواقع التواصل الاجتماعي قصة مختلفة، ونشاهد هذه المقاطع إلى جانب رضوان، حيث قدم رسولوف لقطات حقيقية لاحتجاجات واقعية طوال الفيلم، وتُعد لقطات هؤلاء النساء، وهنّ أناس حقيقيون ناضلن بشجاعة من أجل حقوقهن، من أكثر اللحظات تأثيرًا في الفيلم.

يُعد النصف الأول من الفيلم بمثابة تعليق سياسي مشوق، يستكشف موضوعات الخوف والسيطرة والمراقبة في مجتمع ممزق. ومع تطور السرد، يتحول إلى دراما عائلية عاطفية للغاية، تعرض علاقات إيمان المتوترة مع زوجته وبناته.
وبحلول الفصل الأخير، يتحول العمل إلى فيلم إثارة مكثف، يبلغ ذروته في رحلة مليئة بالتشويق إلى قرية إيمان. ويُبدع رسولوف في التعامل مع هذا التحول الدرامي، محافظًا على إيقاعٍ مُثير، رافعًا مستوى الأحداث إلى آفاقٍ جديدة.
أداء الممثلين استثنائي، حيث يُساهم كلٌّ منهم في تصويرٍ دقيقٍ يُبرز الجوانب السياسية والشخصية للفيلم. تتميز سهيلة غلستاني، في تجسيدها لشخصية الأم نجمة، بأداءٍ قويٍّ وشجاع. حيث تنتقل من كونها مُدافعةً شرسة عن خيارات زوجها الأخلاقية إلى حليفةٍ لبناتها.
وتأتي اللحظة الأكثر تأثيرًا في حياتها عندما تُعانق بحنانٍ شابةً مُصابةً من المُحتجّين، في مشهدٍ مُؤرّق يُعبّر عن إدراكها المُتنامي للواقع السياسي المُحيط بها. إنّ التطور الدقيق لشخصية غلستاني في دور نجمة آسرٌ للغاية.

يُمثّل عنوان الفيلم، المُشير إلى شجرة التين المُقدسة التي تنتشر بخنق أخرى، استعارةً قويةً للنظامين الخانقين (الأبوي والحاكم) في إيران. يُعد قرار رسولوف الجريء بعرض مشاهد منزل العائلة دون الحجاب الإلزامي تحديًا للأنظمة الإيرانية، مُظهرًا التزامًا لافتًا بالصدق والنزاهة الفنية. تحية للنساء الثلاث اللواتي تجرأن على كشف رؤوسهن رغم علمهن بالعواقب. ويعكس استعدادهن لاتخاذ هذا الموقف شجاعةً عميقةً تتردد أصداؤها طوال أحداث الفيلم.
في المشاهد النهائية، يتحول العمل إلى فيلم إثارة لا هوادة فيه، يبني التشويق بتوترٍ يسلب أنفاس المتفرج. تنطلق العائلة في رحلة برية، ويدفع لغز المسدس المفقودة من الأب السرد إلى الأمام، مما جعله لا يثق حتى بزوجته وبناته.. فيُصاب إيمان بالهوس، ويسجن عائلته ويُجبرهم على الاعتراف بـ «جريمتهم» أمام الكاميرا. إخراج رسولوف بارع، مُحوّلًا الفيلم إلى تجربة مؤثرة للغاية تتحدى التصنيفات الفنية.
يُدمج رسولوف ببراعة السرديات الشخصية والسياسية، مُبيّنًا كيف يتغلغل القمع الخارجي في أكثر جوانب الحياة حميمية.

وتُمثّل نقطة التحوّل في الفيلم – مسدس مفقود – استعارةً قويةً لتصاعد انعدام الثقة والارتياب الذي يُمكن أن يُؤدّي إلى تآكل العلاقات الأسرية في ظلّ نظام استبدادي.
ويتجلى جرأة المخرج في سرده القصصي من خلال تضمين لقطات حقيقية من احتجاجات «المرأة، الحياة، الحرية»، عقب الوفاة المأساوية لمهسا أميني. هذا المزج بين الخيال والواقع لا يعزز مصداقية الفيلم فحسب، بل يُذكّرنا أيضًا بالنضالات المستمرة ضد الأنظمة القمعية.
وفي حين أن إيقاع الفيلم قد يُشكّل تحديًا لبعض المشاهدين، لا سيما مع انتقاله من الإثارة السياسية إلى الدراما المنزلية، إلا أن هذا النهج المتعمد يعكس التوتر المتصاعد داخل السرد. ذروة الفيلم صادمة ومحفزة للتفكير في آنٍ واحد، تاركةً الجمهور يتصارع مع الأسئلة العميقة التي تطرحها حول الإنسانية والولاء والأخلاق وفعل المقاومة.

في جوهره، لا يُعد «بذرة التين المقدس» تعليقاً سياسياً على واقعه فحسب، بل هو أيضاً قصة مؤثرة عن تماسك عائلة وانهيارها، وهي قضية عالمية تتجاوز الحدود. إن شجاعة رسولوف الراسخة والأداء المتميز لطاقمه التمثيلي، وخاصةً سهيلة غولستاني، تجعل من هذا الفيلم إنجازاً تاريخياً يترك بصمة لا تُمحى.