المهرجاناتالمهرجانات العربيةسينماناكتب سينمائيةمراجعات فيلميةمهرجان الرباطمهرجاناتنقد
حسين صدقي الواعظ الأخلاقي في السينما المصرية
القاهرة ـ «سينماتوغراف»
مواصفاته الشكلية كانت جسر مروره إلى السينما، وفي ذاك الوقت كان للشكل دور كبير في صناعة النجم السينمائي. وظهور حسين صدقي بطلاً في فيلم «تيتاوونج» فتح الباب على مصراعيه لنجوم جُدد توافرت فيهم ملامح البطل على الشاشة الفضية، حسب «الكتالوج السينمائي» الذي رسخته السينما العالمية عموماً، والأمريكية خصوصاً.
وإذا اعتبرنا حسين صدقي هو الحدّ الفاصل بين سينما اعتمدت على المطربين نجوماً، وسينما فتحت ذراعيها لفنانين خرجوا من عباءة المسرح، وهو صاحب تجربة صغيرة في المسرح، فإنه حمل إشارة البدء لأسماء جديدة بعد خطوته الأولى مع «تيتاوونج».
كانت هذه الكلمات في افتتاحية الفصل الثاني من كتاب الناقدة ناهد صلاح «حسين صدقي الملتزم»، الصادر ضمن مطبوعات «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي»، عام (2014)، كافية لتلخيص شخصية ذلك الفنان الرائع الذي فقد والده وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره، في حين صارت أمه التركية، التي لا تتحدث العربية إلا قليلاً، هي عالمه كله الذي يتكئ صدقي فيه على تعليماتها، وتجلّت له في أشكال الالتزام كلها.
ففي نظر أمه، كما تقول المؤلفة، فإن التشبث بالدين واستماع ابنها لقصص القرآن الكريم وذهابه للمسجد ليصلي هو الخير… وعلى هذه الخلفية نشأ حسين صدقي، واشتد ساعداه، بين أصول تركية متشددة لأمه، وأصول ريفية متشابهة لأبيه، تعود إلى منطقة جزيرة محمد، بالقناطر الخيرية، وترسّخ لشخصيته الملتزمة فيما بعد، في الحياة والفن، وليظل واحداً من قلة في مجتمعه ساهمت في صنع لغة جديدة، تخاطب ناسه وتجعل الفن أيقونة التغيير والفرصة في إعادة ترتيب الحياة.
فالطفل الصغير الذي نشأ في كنف أسرة متدينة، يكبر وينخرط في لعبة التمثيل الصعبة، ويقرر أن يحطم الحواجز القائمة، دون أن يقع في فخ التناقضات… يمثل ويكتب ويخرج وينتج أفلاماً تعيد صوغ الحكايات اليومية ومتاهاتها، كاشفة المعلن والمستور، لتجعله أقرب إلى القدر منه إلى الغموض.
لقد أراد أن تكون أفلامه مسودة معلنة لوطن يرسمه وفق معتقداته المثالية، ولعل هذا ما تعلمه على مهل يليق بزمانه ومجتمعه، في الحلمية الجديدة، حيث ولد في 9 يوليو 1913، بهذا الحي العريق. وكل الذين بحثوا في هذا العام عرفوا أنه عام الولوج إلى تغيير اجتماعي وسياسي كبير، حيث مرحلة وصفحة جديدة في مصر، من تاريخ الصراع الطبقي المتسارع، وزيادة سيطرة الرأسمالية العاصفة… هكذا وُلد حسين صدقي على أعتاب حرب كبيرة، غيّرت وجه العالم، هي الحرب العالمية الأولى، وأرست لتاريخ سينمائي مختلف.
في فصل كتابها الأول، تؤكد ناهد صلاح على تمهيدات طريق الفن لدى بطل كتابنا، وكيف التحق بفرقة جورج أبيض، على مسرح رمسيس، أثناء الدراسة، ليتنقل بين الفرق المسرحية بعد ذلك، دون أن تفوتها إشارة خجله الذي لازمه، وكوب اليانسون على مقاهي عماد الدين، وسط أحاديث الفن، وانصرافه قبل العاشرة مساءً، وعدم انخراطه في حفلات منتصف الليل الصاخبة، ربما لتؤكد على عدم سقوط الفنان في التناقض الذي سيثبته بأعماله السينمائية التالية فيما بعد.
تيتاوونج:
في فيلم «تيتاوونج» تشير ناهد صلاح إلى مقال الناقد كمال رمزي «حسين صدقي العاشق الأخلاقي»، حين يصف شخصية المحامي التي جسدها حسين صدقي في الفيلم باعتبارها تكشف ذاته ومشاعره تجاه الناس والمجتمع، إضافة إلى نظرته المنضبطة نحو المرأة، التي لا تخلو من احترام وتقدير، وهي الخيوط نفسها التي كانت تنسج حياة صدقي وواقعه، وكوّنت منمنمات الالتزام وخطوطه التي سار عليها، وأبرزته رجلاً ملتزماً، هو في حقيقة الأمر صنيعة النساء، من أم قوية حددت له خارطة الطريق، منذ البداية، وتباهت بنجاحها وهي تراه يخطو على نقوشها، إلى نساء رائدات في الحركة الفنية، كتبن اسمه في أول فهرس النجوم، مثل فاطمة رشدي وأمينة محمد.
وتضيف صلاح أنه لم يكن في هذه البداية السينمائية ترف اختيار وتحديد تجربته وتأطيرها في شكل فني معين، أو حسب معتقداته الأخلاقية التي رشحته ليكون «خطيب السينما المصرية»، كما وصفه بعض النقاد، تتويجاً لتجربته عموماً، ومع ذلك بدا أن القدر يحالفه حين اكتشفت فيه أمينة محمد نموذج البطل المثالي صاحب الأخلاق الحميدة والوعود القوية، فحققت له الأمنية بدور يحمل الكثير من القيم لشخصية محام.
وعندما عُرض الفيلم في سينما «الأمريكان كونوغراف»، بالقاهرة، حصل على نجاح جماهيري كبير، وإقبال غير متوقع، إلى درجة أدهشت صانعي الفيلم أنفسهم، خصوصاً أن إمكانياته الإنتاجية ضئيلة مقارنة بأفلام أخرى، عُرضت في الموسم السينمائي نفسه.
وبصرف النظر عن قلة الإمكانيات، أو السطحية والمباشرة في طرح الموضوع، فإن «تيتاوونج» فيلم يليق بزمانه وبمعطياته وبايقاعه الرومانسي، كما أنه يظل الفيلم الفاصل في بداية مرحلة انتقالية في السينما المصرية، بعدها توالت البطولات التي جعلت حسين صدقي كالنسر المحلق، فحصل على دور محام مرة أخرى في فيلم «الدفاع»، أمام يوسف وهبي، وهو الفيلم الذي منحه الحظ فرصة العرض قبل «تيتاوونج»، ثم حصل صدقي على بطولة فيلم «عمر وجميلة» (1937)، أمام أمينة نورالدين.
وجاء فيلمه الرابع «ثمن السعادة» (1939)، أمام فاطمة رشدي، وهو فيلم ميلودرامي زاعق، يستخدم فزاعة مجتمع الغابة الذي لا يرحم الفتيات الصغيرات والنساء الضعيفات… ثم يأتي فيلمه الخامس، أمام راقية ابراهيم هذه المرة، وهو «أجنحة الصحراء»، ومعهما أنور وجدي ومحسن سرحان وأحمد سالم، الذي أنتج الفيلم وأخرجه وكتب له السيناريو والحوار أيضاً، ويدور الفيلم حول طيار شاب متطلع، يحلم دائماً بمستقبل نادر، له صديق مستهتر يلهث خلف الملذات فيفقد مستقبله.
ويشاء القدر في العام نفسه ان يحدث اللقاء التاريخي بين حسين صدقي ورائد الواقعية كمال سليم في فيلم «العزيمة»، وقد وقّع عقده أثناء تصوير فيلم «أجنحة الصحراء»، مما جعل أحمد سالم يشعر بالخوف على فيلمه من فيلم مثل «العزيمة»، يطرح أفكاراً جديدة تسعى إلى تغيير مفاهيم المجتمع، ويقدم صوراً مغايرة لما تقدمه السينما آنذاك.. ونجح «العزيمة»، وكان علامة في تاريخ السينما المصرية، ولازال.
تيار الواقعية:
في الفصل الثالث تتحدث الناقدة عن فيلم «العزيمة»، بوصفه أول فيلم يؤسس لتيار الواقعية في السينما المصرية، وعلامة تحول في مسار هذه السينما، وفي مسار حسين صدقي نفسه، حيث يضرب ضربته الجديدة على درب النجومية، فلم تكن ضربته طائشة، لأن ظروف الفيلم كلها تلاقت شكلاً ومضموناً مع إرادة حسين صدقي في تقديم افلام لها طابعها القيمي الخاص، والتي تلتقي مع هموم مجتمعه وواقعه، وتحاول أن تضمد جراحه.
كان أفق صدقي مرسوماً بإيمانه بأن السينما رسالة، وكان على الأقل صادقاً مع نفسه، ودلّت عليه تجربته التي حملت عناوين كبيرة تشير إلى أنه تعامل في رحلته السينمائية كأنه شريك في حرب، وعليه أن يخوضها حتي النهاية، وأن ينتصر…
واستطاع «العزيمة» أن يرسم الخط البياني للسينما الواقعية، لكنه لم يؤكد صعود حسين صدقي، بل منحه بداية جديدة وحقيقية قرّبته من قطاع عريض من الجمهور، ما جعله هو نفسه يصف الفيلم في أحد حواراته الصحفية بأنه «فيلم العمر»، له وللمخرج كمال سليم
ووفقاً لمعادلة إنتاجية قدم صدقي فيلمه الكوميدي الوحيد «العريس الخامس» (1942)، أمام آسيا داغر، ووفقاً لمعادلته التسويقية حرص صدقي فيما بعد أن تكون معظم بطلات أفلامه من المطربات، فعمل مع ليلى مراد ونجاة على ونور الهدي وصباح ورجاء عبدة ومها صبري، وكان فيلم «ليلى» في صدارة هذه النوعية، وكان بداية تعاونه مع ليلى مراد، في حين يظل «الحبيب المجهول» الفيلم الأخير الذي أغلق دائرة التعاون بينهما.
واعظ السينما:
تحت هذا العنوان أفردت ناهد صلاح فصلها الخامس، الذي بادرت فيه قائلة: شاء أم لم يشأ، فإنه الواعظ الأخلاقي، وخطيب السينما المصرية، وغيرها من ألقاب حصل عليها حسين صدقي، وسُمّي بها تعبيراً عن أفلامه… ومن المكابرة أن نتجاهل تفاعل الجمهور مع نوعية الأفلام التي قدمها، وما ترتّب عليها من نجاح كبير في حينها، حتى لو كانت هذه الأفلام تعتمد على التعبير المباشر، والحثّ الصريح على الكفاح والتمسك بالعقيدة الدينية والأخلاقية، فهو من اصحاب النظرية القائلة بأن الفن في خدمة المجتمع، وصنع أفلاماً تقدم جواباً على هذه النظرية التي لاقت رواجاً.
إن صدقي يعتبر نفسه فناناً ثورياً يخاطب الجماهير، ويلتزم بقضاياهم، ويصنع أفلاماً من أجلهم… وكان المجتمع المصري مثل العالم، خارجاً لتوّه من الحرب، حيث انتشر الفساد، وتدهورت القيم الأخلاقية، إبان الحرب العالمية الثانية… وقد تبنى صدقي مساراً أخلاقياً لمواجهة ذلك… لذا حرص على أن يظهر في كل أدواره في صورة الشاب الطيب المهذب المكافح، خفيف الظل، التلقائي، أو الزوج الصالح، أو الفقير المكافح… نماذج متعددة لشخصيات صالحة تصوّر قناعاته في رسم مجتمع مثالي، يعيش على مجموعة من الأفكار القيمية التي آمن بها، مستعيناً بآيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وهو ما كرسه بعد ذلك بفيلم «ليلة القدر»، أو «الشيخ حسن» الذي جاء لتهدئة الأجواء المتوترة بين المسلمين والمسيحيين في مصر، عقب زواج الأميرة المسلمة فتحية من الموظف المسيحي رياض غالي، لكن ما حدث أن الفيلم كأنه صبّ الزيت على النار فازداد اشتعالاً وواجه الفيلم محاولات منعه، بل تصدت الرقابة بعنف للفيلم، قبل أن يصرّح بعرضه، بعد ذلك بعد رفع صدقي دعوى قضائية.
هكذا جاءت أفلام حسين صدقي وثيقة اجتماعية شاهدة على عصر كامل، وهو ما يؤكده مجمل رأي النقاد، والقطاع الأوسط من الجمهور، الذين احتوتهم أفلامه، وبها كانوا يهتدون.