طارق الشناوي يكتب من مهرجان أبو ظبي لـ”سينماتوغراف”
“ذيب ” .. الرمال تتكلم سينما!
يأخذك الفيلم من مقعدك في دار العرض لتجد نفسك وقد أصبحت مشاركا الابطال على الشاشة، هذا هو احساسي بالفيلم الأردني ّ”ذيب”.
تشهد الأردن بحق بداية نهضة سينمائية تابعتها قبل سنوات في العديد من المهرجانات، هذا الفيلم تحديدا يلعب في مساحة مختلفة حيث أن الملعب الدرامي الوحيد هو تلك البيئة البدوية والصحراء الشاسعة فهى المقدمة وهي عمق الكادر أيضا، بالمناسبة تخصص في تلك النوعيات في الماضي مخرجنا الكبير نيازي مصطفي مع زوجته كوكا التى كانوا يطلقون عليها نجمة الشاشة البدوية حيث كانت المبارزة بالسيف هي العنوان و في الكادر الرمال والجمال والخيل وكلمتين باللهجة البدوية أو على طريقة “مجنون ليلي” لأمير الشعراء أحمد شوقي والدويتو الشهير بين محمد عبد الوهاب وأسمهان وتلك الشطرة الشهيرة ” جئت تطلب نارا أم جئت تُشعل البيت نارا”.
هذه المرة نعيش الصحراء والمقاومة والاتجار بكل شيء حتى الايمان، والتضحية في سبيل المبدأ بكل شيء حتى الروح ، الفيلم لا يطلب نارا بل يشعل هذه المرة الشاشة بنار ووهج الابداع.
المخرج الأردني ناجي أبو نوار يقدم في أول أفلامه الروائية وبمشاركة من باسل غندور في كتابة السيناريو تلك الرؤية التى تُقدم لنا عالم الصحراء في الحرب العالمية الأولى، الاحداث تجري عام 1916 بعد اندلاع الحرب بعامين وكيف نواجة الامبراطورية العثمانية التى تفرض هيمنتها على العالم العربي، نحن أمام ثلاث قوي، الأولى هي أهل الصحراء أصحاب الأرض وهم يعملون في مهنة الدليل الذي ينقل الحجيج من تلك البقعة للحج الى بيت الله الحرام، وهي مهنة متوارثة في تلك العائلة، والثاني قُطاع الطرق الذين لا يعنيهم سوي الاستحواذ على المال و الخيل والجِمال تحت تهديد السلاح، ثم الغزاة الذين يريدون السيطرة على مقدرات الوطن، نحن نتابع هذا الشريط من خلال رؤية تحمل قدرا يفيض بالطزاجة الابداعية حيث أن البطل هو الطفل الذي أدري دوره جاسر عيد لم يصل بعد الى مرحلة المراهقة وكان عليه وهو في بكارة العمر أن يعيش تفاصيل يتعرف عليها للوهلة الاولي ليكتشف معني الوطن والشرف والنضال والقتل والتضحية والحيلة والصراع من أجل البقاء.
صُندوق القنبلة الخشبي الذي يحوي ألة تفجير تُصبح حافزا قويا ومؤثرا ومباشرا يزيد من جرعة الترقب فهو يظل يهددك كمتفرج بالانفجار وليس فقط الابطال على الشاشة انه يبدو للوهلة الاولى سلاح من أجل مزيد من التشويق، و كلما اقترب أحد وخاصة الطفل من هذا الصندوق تزداد درجة الخوف ولكن في الحقيقة هو يتجاوز ذلك بكثير حيث يصبح رمزا لكشف غموض الحياة التى ربما في لحظات تبدو هي أيضا قنبلة على وشك الانفجار في وجه من يقترب منها، الحالة التى عليها الشاشة حتى في الصمت كانت تعبر عن عين تلتقط الصورة برؤية مزدوجة بقدر ما هي كشفيه فإنها أيضا درامية وجمالية، الصحراء من خلال عين المخرج تشع حضورا وإبداعا وتتحدي الفقر الظاهر والمباشر الذي يبدو للوهلة الأولى في الصورة المتكررة بالضرورة قبل أن تنضح بكل تفاصيل الجمال، وتبقي أهم مشاهد الفيلم عندما يلجأ بطل الفيلم “ذيب” للبئر لكي يحمي نفسه من الموت المحقق ومن مطاردة قُطاع الطرق حتى ينجو في اللحظات الاخيرة، أنت تتابع التفاصيل بعيون طفل يُمسك بحبل النجاة الذي يتدلى من اعلى وتزداد الترقب عندما يقطعون الحبل وفي تلك اللحظة تتحول سواعده الصغيرة إلى مخالب تٌمسك بالصخر وهي تتشبث بالحياة داخل البئر، وينجو من الموت ولكنه يقترب منه عندما يُصبح لزاما عليه أن يتحمل مسؤولية دفنه، اللمحة الثانية علاقته بقاتل أخيه وكيف أن كل منهما في حاجة الى بقاء حياة الاخر لتستمر الحياة ،الطفل ينقذه من موت محقق بعد أن أخذ منه المسدس ومنحه الماء قبل أن يُقتل ظمأً وفي نفس الوقت ينقذه قاتل أخيه من انفجار الصُندوق الذي يحوي القنبلة.
كل العناصر الابداعية تفوقت خاصة الموسيقي فهي تلعب دور البطولة كما أن هناك احساسا شاعريا يغلف الصورة برغم قسوة المكان وتوحشه وفقره الظاهر، ويبقي فن قيادة الممثل وهو ما برع ناجي أبو نوار في تحقيقه من خلال قيادته للطفل حيث حافظ المخرج تماما على درجة تلقائيته أمام الكاميرا وهي بقدر ما تبدو مهمة سهلة بقدر ما تكمن صعوبتها.
كيف تستطيع أن تحكم على العمل الفني؟، كثيرا ما اواجه هذا السؤال ودائما لدي نفس الاجابة وهي ببساطة أن أترك نفسي ومشاعري للشريط على الشاشة لا احاول أثناء المشاهدة استرجاع شيء أو المقارنة أو المقاربة فقط أمنح العمل الفني كل احساسي، وعندما يستحوذ على أبدأ في اكتشاف الاجابة وهو ما حاولت أن أرصده في هذا المقال!.